روائع مختارة | روضة الدعاة | تاريخ وحضارة | من روائع أوقاف المسلمين.. الرفق بالحيوان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > تاريخ وحضارة > من روائع أوقاف المسلمين.. الرفق بالحيوان


  من روائع أوقاف المسلمين.. الرفق بالحيوان
     عدد مرات المشاهدة: 9463        عدد مرات الإرسال: 0

كانت أكثر حضارات العالم "إنسانية"، ولها السبق في الرفق بالحيوان ليس باعتبارها ممارسة اجتماعية من قبيل التقليد والعرف الاجتماعي.

ولكن باعتبارها "تعبدًا لله" وطاعة بما أمر واجتنابًا بما نهى؛ فالرحمة بالحيوان قد تدخل صاحبها الجنة, والقسوة عليه قد تدخله النار.
 
وحينما كانت أممٌ تلهو بتعذيب الحيوانات وقتلها، حيث لا ترى أنَّ للحيوان نصيبًا منَ الرِّفق، أو حظًّا من الرحمة.

كان الإسلام يتشريعاته وأحكامه يرفق بالحيوان الذي له خصائصه وطبائعُه وشعوره، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
 
فله حقُّ الرِّفق والرَّحمة كحقِّ الإنْسَان؛ قال الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرَّحمن"[1].

وقال صلى الله عليه وسلم: "من أُعطِي الرِّفق فقد أعطي حظه من خير الدُّنيا والآخرة"[2]. بل إن الرحمة بالحيوان قد تُدخِل صاحبها الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي بطريق إذِ اشتد عليه العطش.

فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى منَ العطش، فقال الرجل:

لقد بلغ هذا الكلب منَ العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئرَ فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفِيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له، فغَفَرَ له". قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: "في كل ذات كبدٍ رطبة"[3].
 
كما أن القسوة على الحيوان تُدخِل النار: "دخلتِ امرأةٌ النارَ في هرَّة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل مِن خشاش الأرض" (أخرجه البخاري ومسلم)[4]. وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير لصق ظهره ببطنه فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة, فاركبوها صالحة, وكلوها صالحة"[5].
 
وما قرره علماء الأمة وفقهاؤها من أحكام كفيلة برعاية الحيوان, تبين وجوه الرحمة بذلك المخلوق، بدءًا من حرمة إجاعته وتعريضه للهزال والضعف، والتلهي به في للصيد، وطول المكوث على ظهره، وتحميله أكثر من طاقته، إلى رحمته قبل ذبحه إن كان مما يؤكل.
 
وأوقاف المسلمين تعدت حاجة الإنسان لتفي بحاجة الحيوان، وقد وجدنا في ثبت التاريخ أوقافًا خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافًا لرعي الحيوانات المسنة العاجزة كوقف أرض المرج الأخضر بدمشق[6].

وفي الشام وقفًا للقطط الضالة يطعمها ويسقيها, سميت بمدرسة القطاط، وهي في القيمرية الذي كان حي التجار في دمشق؛ ووقفًا للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، سمي اسمًا غريبًا "محكمة الكلاب"، وهو في حي "العمارة"[7].
 
وأوقفت في العهود الإسلامية العديد من الأوقاف الذي خصص ريعها لخدمة الحيوانات والرفق بهم، من ذلك أوقاف للخيول المُسِّنة، وأوقاف للطيور خاصة طيور الحرم؛ وكان-إلى عهد قريب- وقفًا خاصًّا لمركب شيخ الأزهر عُرف بمسمى "وقف بغلة شيخ الأزهر"؛ ليوفر الدابة التي يركبها شيخ الأزهر ونفقاتها وعلفها ورعايتها.
 
وفي مدينة فاس خصص وقف على نوع من الطير يأتي في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن؛ وكأن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقّ الضيافة والإيواء!! وغيرها الكثير.
 
وقد جاء في ترجمة محمد بن موسى الحلفاوي الإشبيلي نزيل فاس، والمتوفَّى بها عام 758هـ، أنه دفع به الرفق بالحيوانات المتخذة والأليفة إلى أن يُعِدَّ دارًا يجمعهم فيها ويسهر على إطعامهم بيده. وكان في حوز مدينة فاس:

بلاد موقوفة على شراء الحبوب برسم الطيور، حتى تلتقطها كل يوم من المرتفع المعروف بكدية البراطيل عند باب الحمراء داخل باب الفتوح، وأيضًا عند (كدية البراطيل)، خارج باب الجيسة[8].
 
فالإسلام اهتم بالحيوانات ونظم لها حقوقًا قبل أن تقرها أو تعرفها الشعوب الأخرى، فيحرم على المسلم أن يتلهى بقتل الحيوانات والطيور، واتخاذهما هدفًا لتعليم الإصابة؛ فقد "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا"؛ أي: هدفًا.
 
ونهى الإسلام عن التحريش بين الحيوانات على نحو ما نرى من مصارعة الدَّيَكة. وبينما نرى الأسبان يتفننون بغرز الرمح في ظهر الثور لمزيدٍ من الإثارة، نرى الإسلام نهى عن وسم وكي الحيوانات بالنار.
 
وقد قرر علماء المسلمين أن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، فإن امتنع أُجبر على بيعه أو الإنفاق عليه أو تركه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه، أو ذبحه إن كان مما يؤكل.
 
وقرر بعض الفقهاء أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف، بل كانت الدولة الإسلامية ترى أن من واجبها متابعة رفق الناس بالحيوانات، فقد أذاع عمر بن عبد العزيز في إحدى رسائله إلى ولاته أنْ ينهوا الناس عن ركض الفرس في غير حق.

وكان من وظيفة المحتسب منع الناس تحميل الدواب فوق طاقتها، بل وجعل المسلمون الأوقاف على الحيوانات وتطبيب المريض منها، وأوقافًا لرعي الحيوانات المُسِّنة العاجزة، وملعب العباسيين لكرة القدم في دمشق، هو وقف على الحيوانات المسنة، ترعى فيه حتى تموت.

وهناك أوقاف للقطط تأكل منه وترعى وتنام كما كان في وقف دمشق للقطط، وكان يجتمع في دارها المخصصة لها مئات القطط الفارهة السمينة التي يُقدَّم لها الطعام كل يوم.
 
وإذا نظرنا غربًا سنجد أن أولئك الذين يدَّعون الرفق بالقطط والكلاب، لهم ماض قاسٍ في معاملة الحيوانات، لعل مصارعة الثيران امتداد له.. ففي الوقت الذي نظر الإسلام إلى الحيوانات أنها غير عاقلة ولا مسئولية تقع عليها إن هي تسببت في الإضرار بالآخرين، سنجد أن هذا المبدأ قد تحقق حديثًا عند الغربيين.

لكن في قرون أوربا الوسطى وفي فرنسا في القرن 13م كانت القوانين تحاسب الحيوانات على أساس أنها مسئولة عن تصرفاتها أمام المحكمة وبنفس الطريقة القانونية التي يُحاكم فيها البشر، وعند النطق بالحكم يَرِد في الأسباب الموجبة للحكم "يُحْكَمُ بإعدام الحيوان تحقيقًا للعدالة وجزاءً لما ارتكبه من جرم وحشي فظيع".
 
ونص القرآن على تكريم الحيوان، وبيان مكانته وأهمِّيَّته، وتحديد موقعه إلى جانب الإنسان، قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5-8].
 
وقد استنبط الفقهاء والمفسِّرون من هذه الآيات أنَّ الحيوان شديد الارتباط بالإنسان، وثيق الصلة به، قريب الموقع منه، ومن هنا كان للحيوان على الإنسان حرمة وذمام، كما جاء في تفسير القرطبي.
 
هذا، وقد كان للحيوان نصيب كبير في المؤسَّسات الاجتماعيَّة الإسلاميَّة؛ إذ عَرَفَت الحضارة الإسلامية منذ ابن البيطار-من أطباء القرن السابع الهجري- أوقافًا خاصَّة لتطبيب الحيوانات المَرِيضَة، وأوقافًا لرعي الحيوانات المُسِنَّة.

وكان من بين أوقاف دمشق وقف للقطط تأكل منه وترعى وتنام فيه!! حتى إنه كان يجتمع في دارها المخصَّصة لها مئات القطط السمينة التي كان يُقَدَّم لها الطعام، وهي مقيمة لا تتحرَّك.
 
ونجد في العصر المملوكي الكثير من المنشآت الوَقْفِيَّة التي خصصت لرعاية الحيوانات؛ فهناك منشآت معمارية كاملة خصصت للدواب، مثل حوض الدوابِّ الذي أوقفه السلطان قايتباي في صحراء المماليك؛ لتشرب الدواب أثناء سيرها من هذه الأماكن وتستريح من السير في أماكن ظليلة بعيدة عن الشمس.

وتعالج إذا كانت مصابة أو مريضة في العيادة الملحقة بالحوض، أو إسطبلات لينام فيها الحيوان. وكانت الوقفية تنص على أن يحصل أرباب الوظائف من البيطاريين والمدربين والمسئولين عن إطعام الحيوانات ورعايتهم على رواتب من ريع أراضي زراعية موقوفة على ذلك، وكانت هناك مدارس خاصة لتدريب الخيول على الفروسية.
 
أما الفقراء فكانوا يضعون أمام بيوتهم ما يسمى "ميلغة الكلب"، وهي عبارة عن حجر صغير مجوف يُمْلأ بالماء حتى تشرب منه الكلاب التي لا تستطيع الشرب من أحواض الدواب الكبيرة التي كانت مخصصة للخيول والحمير والبغال، وما زالت هذه الأحجار موجودة أمام بيوت البعض خاصة في الأحياء الشعبية بالقاهرة.

حيث يعتبرون ذلك سبيلًا يرجون به الثواب من الله تعالى، وداخل البيوت نلاحظ أن الزير الذي كان يشرب منه أهل البيت الماء، يُرْفَع على حمَّالَة معلق فيها حوض صغير يتجمع فيه ماء من الزير؛ لتشرب منه الطيور الموجودة في المنزل أو العصافير التي لها حرية الحركة.
 
ومن أشهر كتب الأدب العربي والتراث الإسلامي التي عنيت بالحيوان والطيور السابقة ما يلي: كتب الإبل: لأبي حاتم السجتاني، وللأصمعي، ولأبي عبيدة، وللنضر بن شميل، ولأبي زياد الكلابي، ولأحمد بن حاتم الباهلي.

وكتب الخيل: لابن قتيبة، ولابن الأعرابي، وأبي عبيدة، ولأبي جعفر البغدادي، وللشيباني، ولابن حاتم. وكتب الغنم والشاء: لأبي حسن الأخفش، ولابن شميل، وللأصمعي. وكتب الوحوش: للأصمعي، ولأبي زيد، وللسجتاني.

وكتب الطير: للسجتاني، ولابن شميل، وللعاهلي. وكتب البازي والحمام والحيات والعقارب لأبي عبيدة. كتاب الفرس للأصمعي. وكتاب العقارب والحشرات لأبي حاتم وللأصمعي.
 
[1] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم.
[2] رواه أحمد.
[3] أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك، وأحمد، وأبو داود.
[4] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا.
[5] رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه, وقال: قد لحق ظهره ببطنه.
[6] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص184.
[7] علي طنطاوي: ذكريات 7/312.
[8] محمد المنوني، مجلة دعوة الحق، العدد الرابع، السنة 21، 1983م.

الكاتب: عيسى القدومي

المصدر: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية